الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الغرور - بالضّمّ - في اللّغة الباطل، قال الكفويّ: الغرور: هو تزيين الخطأ بما يوهم أنّه صواب. والغَرور - بالفتح - كلّ ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وفسّر بالشّيطان، إذ هو أخبث الغارّين، وبالدّنيا لما قيل: الدّنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ. وفي الاصطلاح قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبّه، وفيه باطن مكروه أو مجهول، والشّيطان غرور ؛ لأنّه يحمل على محابّ النّفس، ووراء ذلك ما يسوء، قال: ومن هذا بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغرّ وباطن مجهول. والغرور عند علماء الآداب الشّرعيّة هو سكون النّفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطّبع عن شبهة وخدعة من الشّيطان. أ - الخدع: 2 - الخدع هو أن يستر عن إنسان وجه الصّواب فيوقعه في مكروه، وأمّا الغرور فهو إيهام يحمل الإنسان على فعل ما يضرّه، مثل أن يرى السّراب فيحسبه ماءً فيضيّع ماءه فيهلك عطشاً، وتضييع الماء فعل أدّاه إليه غرور السّراب إيّاه. والغرور قد يسمّى خدعاً، والخدع يسمّى غروراً على التّوسّع. ب - الكبر: 3 - الكبر اسم من التّكبّر، وهو استعظام النّفس واحتقار الغير، وسببه علوّ اليد والتّمييز بالمنصب والنّسب، أو الفضل. وقال الرّاغب الأصفهانيّ: الكبر هو ظنّ الإنسان بنفسه أنّه أكبر من غيره، والتّكبّر إظهار لذلك، وهذه صفة لا يستحقّها إلاّ اللّه تعالى، ومن ادّعاها من المخلوقين فهو فيها كاذب. والصّلة بين الكبر والغرور هو أنّ المتكبّر والمغرور كلاهما جاهل ؛ لأنّ الكبر يتولّد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل رأس الانسلاخ من الإنسانيّة. ج - العُجب: 4 - العجب هو استعظام النّعمة والرّكون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم. قال الرّاغب: العجب هو ظنّ الإنسان في نفسه استحقاق منزلة هو غير مستحقّ لها، وأصل الإعجاب من حبّ الإنسان نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «حبّك الشّيء يعمي ويصمّ» ومن عمي وصمّ تعذّر عليه رؤية عيوبه. والصّلة بين الغرور والعجب أنّهما من الأوصاف الرّديئة.
5 - الغرور مذموم شرعاً، ورد بذمّه القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة المطهّرة. ومن ذلك قول اللّه سبحانه وتعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على اللّه».
6 - من المغرورين من يغترّ بفهم فاسد فهمه من نصوص القرآن والسّنّة فيتّكل عليه، كاتّكال بعضهم على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}. وهذا من أقبح الجهل فإنّ الشّرك داخل في هذه الآية، وإنّه رأس الذّنوب وأساسها، ولا خلاف أنّ هذه الآية في حقّ التّائبين، فإنّه يغفر ذنب كلّ تائب من أيّ ذنب كان، ولو كانت الآية في حقّ غير التّائبين لبطلت نصوص الوعيد كلّها، وكاتّكال بعضهم على قوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربّه «أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء»، يعني ما كان في ظنّه فإنّي فاعله به ولا ريب أنّ حسن الظّنّ إنّما يكون مع الإحسان، وأمّا المسيء المصرّ على الكبائر والظّلم والمخالفات فإنّ وحشة المعاصي والظّلم والحرام تمنعه من حسن الظّنّ بربّه، قال الحسن البصريّ: إنّ المؤمن أحسن الظّنّ بربّه فأحسن العمل، وإنّ الفاجر أساء الظّنّ بربّه فأساء العمل. 7- من العصاة من يغترّ بعفو اللّه وكرمه فيقول: إنّ اللّه كريم، وإنّما نتّكل على عفوه، فقد اعتمد هؤلاء المغرورون على رحمة اللّه وعفوه وكرمه فضيّعوا أمره ونهيه، ونسوا أنّه شديد العقاب، وأنّه لا يردّ بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذّنب فهو كالمعاندة قال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق. وقال بعض العلماء: من قطع عضواً منك في الدّنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا. قال ابن قدامة: وليعلم أنّ اللّه تعالى مع سعة رحمته شديد العقاب، وقد قضى بتخليد الكفّار في النّار، مع أنّه لا يضرّه كفرهم.
8 - يغترّ بعض المغرورين بالاعتماد على مثل صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة، حتّى يقول بعضهم: صوم يوم عاشوراء يكفّر ذنوب العام كلّها ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر. قال ابن القيّم: لم يدر هذا المغترّ أنّ صوم رمضان والصّلوات الخمس أعظم وأجلّ من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنّما تكفّر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصّغائر إلاّ مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصّغائر. ومن المغرورين من يظنّ أنّ طاعاته أكثر من معاصيه، لأنّه لا يحاسب نفسه على سيّئاته ولا يتفقّد ذنوبه، وإذا عمل طاعةً حفظها واعتدّ بها، كالّذي يستغفر اللّه بلسانه أو يسبّح اللّه في اليوم مائة مرّة، ثمّ يغتاب المسلمين ويمزّق أعراضهم، ويتكلّم بما لا يرضاه اللّه طول نهاره، فهذا أبداً يتأمّل في فضائل التّسبيحات والتّهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذّابين والنّمّامين، إلى غير ذلك من آفات اللّسان، وذلك محض غرور. 9 - من المغرورين من يغترّ بآبائه وأسلافه، وأنّ لهم عند اللّه مكاناً وصلاحاً، فلا يدعوه أن يخلّصوه. قال الغزاليّ: ينسى المغرور أنّ نوحاً عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السّفينة، فلم يرض الولد فكان من المغرقين {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.
10 - ربّما اتّكل بعض المغترّين على ما يرى من نعم اللّه عليه في الدّنيا، ويظنّ أنّ ذلك من محبّة اللّه له، وأنّه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك، وهذا من الغرور. قال الغزاليّ: والمغرور إذا أقبلت عليه الدّنيا ظنّ أنّها كرامة من اللّه، وإذا صرفت عنه ظنّ أنّها هوان، كما أخبر اللّه تعالى عنه، إذ قال: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} فأجاب اللّه عن ذلك: {كَلَّا}، أي ليس كما قال، إنّما هو ابتلاء، قال الحسن: كذّبهما جميعاً بقوله: {كَلَّا} يقول: هذا ليس بإكرامي ولا هذا بهواني، ولكنّ الكريم من أكرمته بطاعتي غنيّاً كان أو فقيراً، والمهان من أهنته بمعصيتي غنيّاً كان أو فقيراً. وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ اللّه يعطي الدّنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين إلاّ من يحبّ».
11 - يقع الاغترار في الأغلب في حقّ أربعة أصناف: العلماء، والعبّاد، والمتصوّفة، والأغنياء. 12 - المغرورون من أهل العلم فرق: منهم فرقة أحكموا العلوم الشّرعيّة والعقليّة وتعمّقوا فيها واشتغلوا بها، وأهملوا تفقّد الجوارح وحفظها من المعاصي وإلزامها الطّاعات، واغترّوا بعلمهم، وظنّوا أنّهم عند اللّه بمكان، وأنّهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذّب اللّه مثلهم، بل يقبل في الخلق شفاعتهم، وهم مغرورون، فإنّهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أنّ علم العاملة لا يراد به إلاّ العمل ولولا العمل لم يكن له قدر، قال اللّه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} ولم يقل: قد أفلح من تعلّم كيف يزكّيها.
13 - المغرورون من أرباب التّعبّد والعمل فرق كثيرة: فمنهم من غروره في الصّلاة، ومنهم من غروره في تلاوة القرآن، ومنهم من غروره في الحجّ، ومنهم من غروره في الزّهد، وكذلك كلّ مشغول بمنهج من مناهج العمل فليس خالياً عن غرور إلاّ الأكياس، وقليل ما هم. وما من عمل من الأعمال وعبادة من العبادات إلاّ وفيها آفات، فمن لم يعرف مداخل آفاتها واعتمد عليها فهو مغرور.
14 - المغرورون من المتصوّفة فرق، قال الغزاليّ بعد أن ذكر أنواع غرور المتصوّفة: أنواع الغرور في طريق السّلوك إلى اللّه تعالى لا تحصى ولا تستقصى إلاّ بعد شرح جميع علوم المكاشفة، إذ السّالك لهذا الطّريق لا يحتاج إلى أن يسمعه من غيره، والّذي لم يسلكه لا ينتفع بسماعه، بل ربّما يستضرّ به، إذ يورثه ذلك دهشةً من حيث يسمع ما لا يفهم، ولكن فيه فائدة وهي إخراجه من الغرور الّذي هو فيه، بل ربّما يصدق بأنّ الأمر أعظم ممّا يظنّه وممّا يتخيّله بذهنه المختصر وخياله القاصر وجدله المزخرف.
15 - المغرورون من أرباب الأموال فرق: ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرّباطات والقناطر، ويكتبون أسماءهم عليها ليخلّد ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم، ولو كلّف أحدهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه في الموضع الّذي أنفق عليه لشقّ عليه، ولولا أنّه يريد وجه النّاس لا وجه اللّه، لما شقّ عليه ذلك، فإنّ اللّه يطّلع عليه سواء كتب اسمه أم لم يكتبه. وفرقة أخرى يحفظون الأموال ويمسكونها بخلاً، ثمّ يشتغلون بالعبادات البدنيّة الّتي لا تحتاج إلى نفقة المال، كصيام النّهار وقيام اللّيل وختم القرآن، وهم مغرورون، لأنّ البخل مهلك، وقد استولى على قلوبهم، فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال، فقد اشتغلوا عنه بفضائل لا تجب عليهم.
16 - يستعان على التّخلّص من الغرور بثلاثة أشياء: أ - العقل: وهو النّور الّذي يدرك به الإنسان حقائق الأشياء. ب - المعرفة: والمراد بالمعرفة أن يعرف الإنسان أربعة أمور: يعرف نفسه ويعرف ربّه ويعرف الدّنيا ويعرف الآخرة، فيعرف نفسه بالعبوديّة والذّلّ، وبكونه غريباً في هذا العالم وأجنبيّاً من هذه الشّهوات البهيميّة، وإنّما الموافق له طبعاً هو معرفة اللّه تعالى والنّظر إلى وجهه فقط، فلا يتصوّر أن يعرف هذا ما لم يعرف نفسه ولم يعرف ربّه، فإذا حصلت هذه المعارف نار من قلبه بمعرفة اللّه حبّ اللّه وبمعرفة الآخرة شدّة الرّغبة فيها، وبمعرفة الدّنيا الرّغبة عنها، ويصير أهمّ أموره ما يوصّله إلى اللّه تعالى وينفعه في الآخرة، وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحّت نيّته في الأمور كلّها، واندفع عنه كلّ الغرور.
ج - العلم: والمراد أنّه إذا غلب حبّ اللّه تعالى على قلب الإنسان لمعرفته به وبنفسه احتاج إلى العلم بما يقرّبه من اللّه وما يبعده عنه، فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الغرور.
انظر: إفلاس، قسمة.
انظر: تشبيب.
انظر: جهاد.
انظر: مياه.
1 - الغسل لغةً: مصدر غسله يغسله ويضمّ، أو بالفتح مصدر وبالضّمّ اسم. والغِسل بالكسر: ما يغسل به الرّأس من خطميّ ونحو ذلك. ويأتي الغسل بمعنى التّطهير، يقال: غسل اللّه حوبتك أي خطيئتك. والغسل في الاصطلاح: استعمال ماء طهور في جميع البدن على وجه مخصوص بشروط وأركان. أ - الطّهارة: 2 - الطّهارة لغةً: النّظافة والنّزاهة عن الأنجاس والأدناس. واصطلاحاً عرّفها الحنابلة بأنّها: ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال النّجس. فالطّهارة أعمّ من الغسل. ب - الوضوء: 3 - الوَضوء - بالفتح - في اللّغة الماء الّذي يتوضّأ به، وهو أيضاً المصدر من توضّأت للصّلاة. والوُضوء - بالضّمّ - الفعل. واصطلاحاً هو: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
4 - الغسل مشروع بالكتاب والسّنّة، أمّا الكتاب فقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} وقوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن. وأمّا السّنّة فقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل». والغسل قد يكون واجباً كغسل الجنابة والحائض، وقد يكون سنّةً كغسل الجمعة والعيدين. ويفرد الفقهاء للأغسال المسنونة فصلاً خاصّاً، وستأتي في مصطلحاتها.
أسباب وجوب الغسل هي: 5 - اتّفق الفقهاء على أنّ خروج المنيّ من موجبات الغسل، بل نقل النّوويّ الإجماع على ذلك، ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة في النّوم أو اليقظة، والأصل في ذلك حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما الماء من الماء»، ومعناه - كما حكاه النّوويّ - يجب الغسل بالماء من إنزال الماء الدّافق وهو المنيّ، وعن أمّ سليم رضي الله عنها «أنّها سألت نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرّجل ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل، فقالت أمّ سليم واستحييت من ذلك، قالت: وهل يكون هذا ؟ فقال نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم: نعم، فمن أين يكون الشّبه ؟، إنّ ماء الرّجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيّهما علا أو سبق يكون منه الشّبه»، وفي لفظ أنّها قالت: «يا رسول اللّه إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء». واشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة لإيجاب الغسل بخروج المنيّ كونه عن شهوة. قال ابن عابدين: لو انفصل - أي المنيّ - بضرب أو حمل ثقيل على ظهره فلا غسل عندنا. وقال الدّردير: وإن خرج بلا لذّة بل سلساً أو بضربة أو طربة أو لدغة عقرب فلا غسل. ونصّ المالكيّة على أنّه إذا خرج المنيّ بلذّة غير معتادة فإنّه لا يجب الغسل، كنزوله بماء حارّ فأحسّ بمبادئ اللّذّة واستدام حتّى أنزل، وكحكّة لجرب بذكره، أو هزّ دابّةً له، فلا غسل عليه إلاّ أن يحسّ بمبادئ اللّذّة فيستديم فيها حتّى يمني فيجب عليه الغسل، أمّا لو كان الجرب بغير ذكره فالظّاهر عدم وجوب الغسل. ولم يشترط الشّافعيّة الشّهوة، وقالوا بوجوب الغسل بخروج المنيّ مطلقاً. وشرط أبو يوسف الدّفق أيضاً، ولم يشترطه أبو حنيفة ومحمّد، وأثر الخلاف يظهر فيما لو احتلم أو نظر بشهوة، فأمسك ذكره حتّى سكنت شهوته، ثمّ أرسله فأنزل، وجب الغسل عندهما لا عنده، قال الحصكفيّ: وبقول أبي يوسف يفتى في ضيف خاف ريبةً أو استحيا، وقال ابن عابدين: قول أبي يوسف قياس وقولهما استحسان، وإنّه الأحوط فينبغي الإفتاء بقوله في مواضع الضّرورة فقط. كما اشترط الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة لإيجاب الغسل خروج المنيّ من العضو - ذكر الرّجل وفرج المرأة الدّاخل قال النّوويّ: لو قبّل امرأةً فأحسّ بانتقال المنيّ ونزوله، فأمسك ذكره فلم يخرج منه في الحال شيء، ولا علم خروجه بعد ذلك فلا غسل عليه عندنا، وبه قال العلماء كافّةً، ودليله قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّما الماء من الماء» ولأنّ العلماء مجمعون على أنّ من أحسّ بالحدث كالقرقرة والرّيح، ولم يخرج منه شيء لا وضوء عليه، فكذا هنا. ولم يشترط الحنابلة الخروج، بل أوجبوا الغسل بالإحساس بالانتقال، فلو أحسّ رجل أو امرأة بانتقال المنيّ فحبسه فلم يخرج، وجب الغسل كخروجه ؛ لأنّ الجنابة أصلها البعد، لقوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي البعيد، ومع الانتقال قد باعد الماء محلّه، فصدق عليه اسم الجنب، وإناطةً للحكم بالشّهوة، وتعليقاً له على المظنّة، إذ بعد انتقاله يبعد عدم خروجه، وأنكر أحمد أن يكون الماء يرجع. وهناك مسائل تتعلّق بخروج المنيّ منها: أ - رؤية المنيّ من غير تذكّر الاحتلام: 6 - لو استيقظ النّائم ووجد المنيّ، ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل، ومن احتلم ولم يجد منيّاً فلا غسل عليه، لما روت عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً ؟ قال: يغتسل، وعن الرّجل يرى أنّه قد احتلم ولم يجد بللاً ؟ قال: لا غسل عليه». والتّفصيل في مصطلح: (احتلام ف /6 - 9). ب - خروج المنيّ بعد الغسل: 7 - اختلف الفقهاء في إيجاب الغسل في حالة خروج المنيّ بعد الاغتسال. فذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا اغتسل ثمّ خرج المنيّ، فإن كان خروجه بعد النّوم أو البول أو المشي الكثير فلا غسل عليه اتّفاقاً، وإن خرج المنيّ بلا شهوة قبل النّوم أو البول أو المشي فإنّه يعيد الغسل عند أبي حنيفة ومحمّد خلافاً لأبي يوسف. وذهب المالكيّة إلى أنّه إن كانت اللّذّة ناشئةً عن غير جماع، بل بملاعبة، فيجب إعادة الغسل عند خروج المنيّ ولو اغتسل قبل خروجه ؛ لأنّ غسله لم يصادف محلّاً، وإن كانت اللّذّة ناشئةً عن جماع، بأن غيّب الحشفة ولم ينزل، ثمّ اغتسل ثمّ أمنى، فلا غسل عليه ؛ لأنّ الجنابة لا يتكرّر غسلها، ولكن يتوضّأ. وقال الشّافعيّة: إذا أمنى واغتسل ثمّ خرج منه منيّ على القرب بعد غسله لزمه الغسل ثانياً، سواء كان ذلك قبل أن يبول بعد المنيّ أو بعد بوله، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّما الماء من الماء»، ولم يفرّق ؛ ولأنّه نوع حدث فنقض مطلقاً، كالبول والجماع وسائر الأحداث. وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا خرج المنيّ بعد الغسل فلا يجب الغسل ثانياً، لما روى سعيد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن الجنب يخرج منه الشّيء بعد الغسل ؟ قال: يتوضّأ، وكذا ذكره أحمد عن عليّ رضي الله عنه ؛ ولأنّه منيّ واحد فأوجب غسلاً واحداً كما لو خرج دفقةً واحدةً ؛ ولأنّه خارج لغير شهوة أشبه الخارج لبرد، وبه علّل أحمد، قال لأنّ الشّهوة ماضية، وإنّما هو حدث أرجو أن يجزيه الوضوء. ج - خروج المنيّ من غير مخرجه المعتاد: 8 - نصّ الحنابلة والشّافعيّة في أصحّ الوجهين على أنّه لو انكسر صلب الرّجل فخرج منه المنيّ، ولم ينزل من الذّكر، فإنّه لا يجب عليه الغسل. وصرّح الحنابلة بأنّ حكمه كالنّجاسة المعتادة. قال المتولّي من الشّافعيّة: إذا خرج المنيّ من ثقب في الذّكر غير الإحليل، أو من ثقب في الأنثيين أو الصّلب، فحيث نقضنا الوضوء بالخارج منه أوجبنا الغسل، وقطع البغويّ بوجوب الغسل بخروجه من غير الذّكر، قال النّوويّ والصّواب تفصيل المتولّي. وصرّح ابن عابدين بأنّه لو خرج المنيّ من جرح في الخصية، بعد انفصاله عن مقرّه بشهوة، فالظّاهر افتراض الغسل.
9 - التقاء الختانين من موجبات الغسل بالاتّفاق، لما روى أبو هريرة مرفوعاً: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ثمّ جهدها فقد وجب الغسل» وزاد في رواية: «وإن لم ينزل»، ولما روت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسّ الختان الختان فقد وجب الغسل». والتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، ذلك أنّ ختان الرّجل هو الجلد الّذي يبقى بعد الختان، وختان المرأة جلدة كعرف الدّيك فوق الفرج فيقطع منها في الختان، فإذا غابت الحشفة في الفرج حاذى ختانه ختانها، وإذا تحاذيا فقد التقيا، وليس المراد بالتقاء الختانين التصاقهما وضمّ أحدهما إلى الآخر، فإنّه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها ولم يدخله في مدخل الذّكر لم يجب الغسل، وقال الدّردير: الحشفة رأس الذّكر. ولا بدّ لإيجاب الغسل من تغييب الحشفة بكمالها في الفرج، فإن غيّب بعضها فلا غسل عليه، وإن كان مقطوع الحشفة أو كان ممّن لم تخلق له حشفة فيعتبر قدرها، قال النّوويّ: إذا قطع بعض الذّكر، فإن كان الباقي دون قدر الحشفة لم يتعلّق به شيء من الأحكام، وإن كان قدرها فقط تعلّقت الأحكام بتغييبه كلّه دون بعضه، وإن كان أكثر من قدر الحشفة فوجهان مشهوران: أحدهما: أنّه لا يتعلّق الحكم ببعضه، ولا يتعلّق إلاّ بتغييب جميع الباقي، وهذا ما رجّحه الشّاشيّ ونقله الماورديّ عن نصّ الشّافعيّ، ثانيهما: تعلّق الحكم بقدر الحشفة منه، ورجّحه الأكثرون، وقطع به الفورانيّ وإمام الحرمين والغزاليّ والبغويّ وصحّحه الرّافعيّ وغيره، ونقل صاحب الدّرّ عن الأشباه أنّه لو لم يبق منه قدر الحشفة لم يتعلّق به حكم. 10 - واختلف الفقهاء في تحديد الفرج الّذي يجب الغسل بتغييب الحشفة فيه، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب الغسل بتغييب الحشفة في مطلق الفرج، سواء كان لإنسان أو حيوان، قبل أو دبر، ذكر أو أنثى، حيّ أو ميّت. لكنّ المالكيّة شرطوا إطاقة ذي الفرج سواء كان آدميّاً أو غيره، فإن لم يطق فلا غسل على ذي الحشفة المغيّب ما لم ينزل. ووافق الحنفيّة الجمهور في ذلك، إلاّ أنّهم استثنوا فرج البهيمة والميتة، والصّغيرة غير المشتهاة، والعذراء إن لم يزل عذرتها إذا لم يحصل إنزال، وذلك لقصور الشّهوة في البهيمة والميتة والصّغيرة غير المشتهاة الّتي أقيمت مقام الإنزال في وجوب الغسل عند الإيلاج، وعلامة الصّغيرة غير المشتهاة: أن تصير مفضاةً بالوطء. 11 - واختلف الفقهاء في اشتراط التّكليف في وجوب الغسل. فذهب الحنفيّة إلى اشتراط التّكليف - العقل والبلوغ - في وجوب الغسل، فإن كان أحدهما مكلّفاً فعليه الغسل فقط دون الآخر. وقال المالكيّة: المغيّب إن كان بالغاً وجب الغسل عليه، وكذا على المغيّب فيه إن كان بالغاً، وإلاّ وجب على المغيّب دون المغيّب فيه فإن كان المغيّب غير بالغ لم يجب عليه ولا على من غيّب فيه، سواء كان بالغاً أم لا ما لم ينزل بذلك المغيّب فيه، وإلاّ وجب عليه الغسل للإنزال. وقال الشّافعيّة: الصّبيّ إذا أولج في امرأة أو دبر رجل، أو أولج رجل في دبره، يجب الغسل على المرأة والرّجل، وكذا إذا استدخلت امرأة ذكر صبيّ فعليها الغسل، ويصير الصّبيّ في كلّ هذه الصّور جنباً، وكذا الصّبيّة إذا أولج فيها رجل أو صبيّ، وكذا لو أولج صبيّ في صبيّ، وسواء في هذا الصّبيّ المميّز وغيره، وإذا صار جنباً لا تصحّ صلاته ما لم يغتسل، ولا يقال: يجب عليه الغسل، كما لا يقال: يجب عليه الوضوء، بل يقال: صار محدثاً، ويجب على الوليّ أن يأمره بالغسل إن كان مميّزاً. ولم يشترط الحنابلة التّكليف لوجوب الغسل، فيجب الغسل على المجامع غير البالغ - إن كان يجامع مثله كابنة تسع وابن عشر - فاعلاً كان أو مفعولاً به إذا أراد ما يتوقّف على الغسل، قال البهوتيّ: وليس معنى وجوب الغسل في حقّ الصّغير التّأثيم بتركه، بل معناه أنّه شرط لصحّة الصّلاة أو الطّواف أو إباحة مسّ المصحف، كما نصّوا على وجوب الغسل على المجنون والمجنونة، وذلك لأنّ موجب الطّهارة لا يشترط فيه القصد كسبق الحدث. وهناك مسائل تتعلّق بالتقاء الختانين نذكر منها ما يلي: أ - الإيلاج بحائل: 12 - اختلف الفقهاء في وجوب الغسل من الإيلاج بحائل. فذهب المالكيّة وبعض الحنفيّة إلى أنّه لا يجب الغسل على من أولج حشفته أو قدرها ملفوفةً بخرقة كثيفة تمنع اللّذّة، فإن كانت الخرقة رقيقةً بحيث يجد معها اللّذّة وحرارة الفرج فإنّه يجب عليه الغسل. وذهب الشّافعيّة في الصّحيح وبعض الحنفيّة إلى أنّه يجب عليه الغسل في الخرقة الكثيفة ؛ لأنّه يسمّى مولجاً، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى الختانان، أو مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل» قال الحصكفيّ: والأحوط الوجوب، قال ابن عابدين: والظّاهر أنّه اختيار للقول بالوجوب. وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يجب الغسل على من أولج بحائل مطلقاً، من غير أن ينصّوا على كون الحائل رقيقاً أو كثيفاً. ب - الإيلاج في فرج غير أصليّ: 13 - اشترط الفقهاء في وجوب الغسل بالإيلاج في الفرج: أن يكون الفرج أصليّاً، احترازاً من فرج الخنثى المشكل، وصرّح الفقهاء بأنّه لا غسل على الخنثى المشكل بإيلاجه في قبل أو دبر ؛ لجواز كونه امرأةً وهذا الذّكر منه زائد، فيكون كالإصبع الزّائد، كما أنّه لا غسل على من جامعه في قبله ؛ لجواز أن يكون رجلاً، ففرجه كالجرح، فلا يجب بالإيلاج فيه غسل بمجرّده، أمّا لو جامعه رجل في دبره وجب الغسل عليهما لعدم الإشكال في الدّبر. ج - وطء الجنّ: 14 - اختلف الفقهاء في وجوب الغسل من وطء الجنّ. فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجب الغسل من إتيان الجنّ للمرأة، وإتيان الرّجل للجنّيّة، إذا لم يكن إنزال. قال ابن عابدين نقلاً عن المحيط: لو قالت: معي جنّيّ يأتيني مراراً وأجد ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها لانعدام سببه، وهو الإيلاج أو الاحتلام. واستثنى الحنفيّة ما إذا ظهر لها في صورة الآدميّ فإنّه يجب الغسل، وكذا إذا ظهر للرّجل جنّيّة في صورة آدميّة فوطئها، وذلك لوجود المجانسة الصّوريّة المفيدة لكمال السّببيّة. وقال السّيوطيّ من الشّافعيّة: لو وطئ الجنّيّ الإنسيّة فهل يجب عليها الغسل ؟ لم يذكر ذلك أصحابنا، وعن بعض الحنفيّة والحنابلة أنّه لا غسل عليها ؛ لعدم تحقّق الإيلاج والإنزال فهو كالمنام بغير إنزال، قال السّيوطيّ: وهو الجاري على قواعدنا. وذهب الحنابلة إلى وجوب الغسل على المرأة لو قالت: بي جنّيّ يجامعني كالرّجل، وكذا الرّجل لو قال: بي جنّيّة أجامعها كالمرأة. د - إيلاج ذكر غير الآدميّ: 15 - اختلف الفقهاء في وجوب الغسل من إيلاج ذكر غير الآدميّ. فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الغسل من إيلاج ذكر غير الآدميّ كالبهيمة. وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا غسل من إيلاج ذكر غير الآدميّ. هـ - وطء الميّت: 16 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الغسل على المولج في فرج الميّت لعموم الأدلّة، ولا يعاد غسل الميّت المغيّب فيه عند المالكيّة، وفي الأصحّ عند الشّافعيّة لعدم التّكليف، وقال الحنابلة: يعاد غسل الميّتة الموطوءة. وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا غسل في وطء الميّتة. واختلف الفقهاء في وجوب الغسل على المرأة فيما لو استدخلت ذكر ميّت في فرجها: فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجب الغسل على المرأة لو أدخلت ذكر ميّت في فرجها ما لم تنزل. وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الغسل عليها. و - وصول المنيّ إلى الفرج من غير إيلاج: 17 - نصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه لا غسل على المرأة إذا وصل المنيّ إلى فرجها ما لم تنزل ؛ لفقد الإيلاج والإنزال. قال الحنفيّة: فإن حبلت منه وجب الغسل لأنّه دليل الإنزال، وتظهر فائدته في إعادة ما صلّت بعد وصول المنيّ إلى فرجها إلى أن اغتسلت بسبب آخر، قال صاحب القنية: ولا شكّ أنّه مبنيّ على وجوب الغسل عليها بمجرّد انفصال منيّها إلى رحمها وهو خلاف الأصحّ الّذي هو ظاهر الرّواية. وقال المالكيّة: إذا حملت اغتسلت وأعادت الصّلاة من يوم وصوله، لأنّ حملها منه بعد انفصال منيّها من محلّه بلذّة معتادة، قال الدّسوقيّ: هذا الفرع مشهور مبنيّ على ضعيف. وهناك مسائل ذكرها بعض الفقهاء نذكر منها ما يلي: أولاً - صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا يجب الغسل في السّحاق - إتيان المرأة المرأة - إذا لم يحصل إنزال.
ثانياً - قال صاحب القنية من الحنفيّة: إنّ في وجوب الغسل بإدخال الأصبع في القبل أو الدّبر خلافاً، والأولى أن يوجب إذا كان في القبل إذا قصد الاستمتاع لغلبة الشّهوة ؛ لأنّ الشّهوة فيهنّ غالبة، فيقام السّبب مقام المسبّب، وهو الإنزال، دون الدّبر لعدمها، ومثل هذا ما يصنع من خشب ونحوه على صورة الذّكر، ووافقه على ذلك ابن عابدين. وقال المالكيّة: لا ينقض وضوء المرأة بمسّها لفرجها ولو ألطفت، أي أدخلت أصبعاً أو أكثر من أصابعها في فرجها.
18 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحيض والنّفاس من موجبات الغسل، ونقل ابن المنذر وابن جرير الطّبريّ وآخرون الإجماع عليه. ودليل وجوب الغسل في الحيض قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ} أي إذا اغتسلن، فمنع الزّوج من وطئها قبل غسلها، فدلّ على وجوبه عليها، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصّلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم وصلّي». ودليل وجوبه في النّفاس الإجماع - حكاه ابن المنذر وابن جرير الطّبريّ والمرغيناني من الحنفيّة صاحب الهداية - ولأنّه حيض مجتمع ؛ ولأنّه يحرّم الصّوم والوطء ويسقط فرض الصّلاة، فأوجب الغسل كالحيض. 19 - واختلف الفقهاء في الموجب للغسل، هل هو وجود الحيض والنّفاس أو انقطاعه أو شيء آخر ؟ فذهب المالكيّة إلى أنّ الموجب للغسل وجود الحيض لا انقطاعه، والانقطاع إنّما هو شرط في صحّة الغسل. ومثل المالكيّة الحنابلة، قال البهوتيّ: يجب بالخروج، وإنّما وجب بالخروج إناطةً للحكم بسببه، والانقطاع شرط لصحّته، وكلام الخرقيّ يدلّ على أنّه يجب بالانقطاع وهو ظاهر الأحاديث. وقال بعض الحنفيّة: الحيض موجب بشرط انقطاعه. وقال ابن عابدين: سبب وجوب الغسل إرادة فعل ما لا يحلّ إلاّ به عند عدم ضيق الوقت، أو عند وجوب ما لا يصحّ معه وذلك عند ضيق الوقت. واختلفت عبارات الشّافعيّة، فصحّح النّوويّ في المجموع أنّ موجبه الانقطاع، وقال القليوبيّ: الخروج موجب والانقطاع شرط لصحّته، وقال الشّربينيّ الخطيب: ويعتبر مع خروج كلّ منهما - الحيض والنّفاس - وانقطاعه القيام إلى الصّلاة أو نحوها كما في الرّافعيّ والتّحقيق، وقال إمام الحرمين وغيره: وليس في هذا الخلاف فائدة فقهيّة، وقال النّوويّ: فائدته أنّ الحائض إذا أجنبت وقلنا: لا يجب غسل الحيض إلاّ بانقطاع الدّم، وقلنا بالقول الضّعيف إنّ الحائض لا تمنع قراءة القرآن، فلها أن تغتسل عن الجنابة لاستباحة قراءة القرآن. وذكر صاحب البحر فائدةً أخرى قال: لو استشهدت الحائض في قتال الكفّار قبل انقطاع حيضها، فإن قلنا يجب بالانقطاع لم تغسل، وإن قلنا بالخروج فهل تغسل ؟ فيه الوجهان في غسل الجنب الشّهيد. وذكر هذه المسألة أيضاً البهوتيّ من الحنابلة في شرحه على الإقناع. وذكر الشّربينيّ الخطيب فائدةً ثالثةً، وهي فيما إذا قال لزوجته: إن وجب عليك غسل فأنت طالق. 20 - ذهب الحنفيّة وبعض المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الموت من موجبات الغسل، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين توفّيت إحدى بناته: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك». وذهب بعض المالكيّة إلى سنّيّة غسل الميّت، قال الدّسوقيّ: وجوب غسل الميّت هو قول عبد الوهّاب وابن محرز وابن عبد البرّ، وشهره ابن راشد وابن فرحون، وأمّا سنّيّته فحكاها ابن أبي زيد وابن يونس وابن الجلّاب وشهره ابن بزيزة. والتّفصيل في مصطلح: (تغسيل الميّت ف /2).
21 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ إسلام الكافر موجب للغسل، فإذا أسلم الكافر وجب عليه أن يغتسل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أنّ ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل» وعن «قيس بن عاصم أنّه أسلم: فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» ؛ ولأنّه لا يسلم غالباً من جنابة، فأقيمت المظنّة مقام الحقيقة كالنّوم والتقاء الختانين، ولم يفرّقوا في ذلك بين الكافر الأصليّ والمرتدّ، فيجب الغسل على المرتدّ أيضاً إذا أسلم. وصرّح المالكيّة بصحّة الغسل قبل النّطق بالشّهادة إذا أجمع بقلبه على الإسلام ؛ لأنّ إسلامه بقلبه إسلام حقيقيّ متى عزم على النّطق من غير إباء، لأنّ النّطق ليس ركناً من الإيمان ولا شرط صحّة على الصّحيح، وقالوا: لو نوى بغسله الجنابة أو الطّهارة أو الإسلام كفاه ؛ لأنّ نيّته الطّهر من كلّ ما كان في حال كفره. وقال الحنابلة: وسواء وجد منه في كفره ما يوجب الغسل من نحو جماع أو إنزال أو لا، وسواء اغتسل قبل إسلامه أو لا، فيكفيه غسل الإسلام سواء نوى الكلّ أو نوى غسل الإسلام إلاّ أن ينوي ألاّ يرتفع غيره، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال، ووقت وجوب الغسل إذا أسلم أي بعد النّطق بالشّهادتين. 22 - وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى استحباب الغسل للكافر إذا أسلم وهو غير جنب، لما روي أنّه «لمّا أسلم قيس بن عاصم رضي الله عنه أمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يغتسل»، ولا يجب ذلك ؛ لأنّه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالغسل. وإذا أسلم الكافر وهو جنب وجب عليه الغسل، قال النّوويّ: نصّ عليه الشّافعيّ واتّفق عليه جماهير الأصحاب. وقال الكمال بن الهمام: الأصحّ وجوب الغسل عليه لبقاء صفة الجنابة السّابقة بعد الإسلام، فلا يمكنه أداء المشروط بزوالها إلاّ به، وقيل: لا يجب لأنّهم غير مخاطبين بالفروع ولم يوجد بعد الإسلام جنابة. ونصّ الحنفيّة على أنّه لو حاضت الكافرة فطهرت ثمّ أسلمت فلا غسل عليها، ولو أسلمت حائضاً ثمّ طهرت وجب عليها الغسل، والفرق بينها وبين الجنب أنّ صفة الجنابة باقية بعد الإسلام فكأنّه أجنب بعده، والانقطاع في الحيض هو السّبب ولم يتحقّق بعده. قال قاضي خان: والأحوط وجوب الغسل. وعند الشّافعيّة وجهان فيما لو اغتسل حال كفره هل يجب إعادته ؟ أحدهما: لا تجب إعادته لأنّه غسل صحيح، بدليل أنّه تعلّق به إباحة الوطء في حقّ الحائض إذا طهرت فلم تجب إعادته كغسل المسلمة، والثّاني: وهو الأصحّ - تجب إعادته لأنّه عبادة محضة فلم تصحّ من الكافر في حقّ اللّه تعالى كالصّوم والصّلاة، نصّ عليه الشّافعيّ وقطع به القاضي أبو الطّيّب وآخرون، قال النّوويّ: ولا فرق في هذا بين الكافر المغتسل في الكفر والكافرة المغتسلة لحلّها لزوجها المسلم، فالأصحّ في الجميع وجوب الإعادة.
23 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ النّيّة فرض في الغسل، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنّيّات» ويكفي فيها نيّة رفع الحدث الأكبر أو استباحة الصّلاة ونحوها. وذهب الحنفيّة إلى أنّ النّيّة في الغسل سنّة وليست بفرض. والتّفصيل في مصطلح: (نيّة)
24 - اتّفق الفقهاء على أنّ تعميم الشّعر والبشرة بالماء من فروض الغسل لحديث عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثمّ يتوضّأ كما يتوضّأ للصّلاة، ثمّ يدخل أصابعه في الماء فيخلّل بها أصول شعره، ثمّ يصبّ على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثمّ يفيض على جلده كلّه» وعن ميمونة رضي الله عنها قالت «توضّأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وضوءه للصّلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثمّ أفاض عليه الماء، ثمّ نحّى رجليه فغسلهما، هذه غسله من الجنابة» ولما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: «تذاكرنا غسل الجنابة عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أمّا أنا فآخذ ملء كفّي ثلاثاً فأصبّ على رأسي، ثمّ أفيضه بعد على سائر جسدي». ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ تحت كلّ شعرة جنابةً، فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشر». قال النّوويّ: إفاضة الماء على جميع البدن شعره وبشره واجب بلا خلاف، ومن ثمّ يجب إيصال الماء إلى كلّ ظاهر الجسد ومنه ما تحت الشّعرة، سواء كان الشّعر الّذي على البشرة خفيفاً أو كثيفاً يجب إيصال الماء إلى جميعه وجميع البشرة تحته بلا خلاف. وقد نبّه الفقهاء إلى مواضع قد لا يصل إليها الماء كعمق السّرّة، وتحت ذقنه. وتحت جناحيه، وما بين أليتيه، وما تحت ركبتيه، وأسافل رجليه، ويخلّل أصابع يديه ورجليه. ويخلّل شعر لحيته وشعر الحاجبين والهدب والشّارب والإبط والعانة. قال الحنفيّة: يجب غسل كلّ ما يمكن بلا حرج، كأذن وسرّة وشارب وحاجب وإن كثف، ولحية وشعر رأس ولو متلبّداً، وفرج خارج، وأمّا الفرج الدّاخل فلا يغسل لأنّه باطن، ولا تدخل أصبعها في قبلها، ولا يجب غسل ما فيه حرج كعين وثقب انضمّ بعد نزع القرط وصار بحال إن أمرّ عليه الماء يدخله، وإن غفل لا، فلا بدّ من إمراره، ولا يتكلّف لغير الإمرار من إدخال عود ونحوه فإنّ الحرج مرفوع. وهناك مسائل تتعلّق بتعميم البشرة والشّعر بالماء نذكر منها ما يلي: أ - المضمضة والاستنشاق: 25 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، قال الحنابلة: الفم والأنف من الوجه لدخولهما في حدّه فتجب المضمضة والاستنشاق في الطّهارة الكبرى والصّغرى فلا يسقط واحد منهما. لما روت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المضمضة والاستنشاق من الوضوء الّذي لا بدّ منه». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «أمر بالمضمضة والاستنشاق». ولأنّ الفم والأنف في حكم الظّاهر، بدليل أنّ الصّائم لا يفطر بوصول شيء إليهما، ويفطر بعود القيء بعد وصوله إليهما. وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى عدم وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، لأنّ الفم والأنف ليسا من ظاهر الجسد فلا يجب غسلهما، واعتبروا غسلهما من سنن الغسل. ب - نقض الضّفائر: 26 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يجب نقض الضّفائر في الغسل إذا كان الماء يصل إلى أصولها، والأصل فيه حديث أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول اللّه إنّي امرأة أشدّ ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال: لا، إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين» فإذا لم يصل الماء إلى أصول الضّفائر فإنّه يجب نقضها في الجملة. قال الحنفيّة: وإذا لم يبتلّ أصلها، بأن كان متلبّداً أو غزيراً أو مضفوراً ضفراً شديداً لا ينفذ فيه الماء يجب نقضها. وقال المالكيّة: لا يجب نقض الضّفائر ما لم يشتدّ بنفسه أو ضفّر بخيوط كثيرة - سواء اشتدّ الضّفر أم لا - والمراد بها ما زاد على الاثنين في الضّفيرة، وكذا ما ضفر بخيط أو خيطين مع الاشتداد، وصرّحوا بوجوب ضغث مضفور الشّعر - أي جمعه وضمّه وتحريكه- ليداخله الماء، قال الدّسوقيّ: وإن كانت عروساً تزيّن شعرها، وفي البنانيّ وغيره: أنّ العروس الّتي تزيّن شعرها ليس عليها غسل رأسها لما في ذلك من إتلاف المال، ويكفيها المسح عليه. وقال الشّافعيّة: يجب نقض الضّفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلاّ بالنّقض، بخلاف ما تعقّد بنفسه فلا يجب نقضه وإن كثر، فإن كان بفعل عفي عن قليله، ولو بقي من أطراف شعره مثلاً شيء ولو واحدةً بلا غسل، ثمّ أزالها بقصّ أو نتف مثلاً لم يكف، فلا بدّ من غسل موضعها، بخلاف ما لو أزاله بعد غسلها. لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النّار» قال عليّ: فمن ثمّ عاديت شعر رأسي. ونصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّ الرّجل كالمرأة في ذلك. وقال الحنفيّة: لا يكفي للرّجل بلّ ضفيرته فينقضها وجوباً لعدم الضّرورة وللاحتياط ولإمكان حلقه، وفي رواية لا يجب نظراً إلى العادة. ووافق الحنابلة الجمهور في عدم وجوب نقض الشّعر المضفور في غسل الجنابة إذا روت أصوله، وخالفوهم في غسل الحيض والنّفاس حيث قالوا بوجوب النّقض، ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها:«انقضي شعرك وامتشطي»، ولا يكون المشط إلاّ في شعر غير مضفور ؛ ولأنّ الأصل وجوب نقض الشّعر لتحقّق وصول الماء إلى ما يجب غسله. فعفي عنه في غسل الجنابة ؛ لأنّه يكثر فشقّ ذلك فيه، والحيض بخلافه، فبقي على الأصل في الوجوب، والنّفاس في معنى الحيض، وقال ابن قدامة: قال بعض أصحابنا هذا مستحبّ غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء، وهو الصّحيح إن شاء اللّه لأنّ في بعض ألفاظ حديث أمّ سلمة أنّها قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّي امرأة أشدّ ضفر رأسي فأنقضه للحيضة والجنابة ؟ فقال: لا، إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين» وهي زيادة يجب قبولها، وهذا صريح في نفي الوجوب.
27 - اختلف الفقهاء في الموالاة هل هي من فرائض الغسل أو من سننه ؟ فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى سنّيّة الموالاة في غسل جميع أجزاء البدن لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ونصّ الحنابلة على أنّه إذا فاتت الموالاة قبل إتمام الغسل، بأن جفّ ما غسله من بدنه بزمن معتدل وأراد أن يتمّ غسله، جدّد لإتمامه نيّةً وجوباً، لانقطاع النّيّة بفوات الموالاة، فيقع غسل ما بقي بدون نيّة. وذهب المالكيّة إلى أنّ الموالاة من فرائض الغسل.
28 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ دلك الأعضاء في الغسل سنّة وليس بفرض، «لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ رضي الله عنه: فإذا وجدت الماء فأمسّه جلدك» ولم يأمره بزيادة، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأمّ سلمة «إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين»، ولأنّه غسل فلا يجب إمرار اليد فيه، كغسل الإناء من ولوغ الكلب. وذهب المالكيّة والمزنيّ من الشّافعيّة إلى أنّ الدّلك فريضة من فرائض الغسل، واحتجّوا بأنّ الغسل هو إمرار اليد، ولا يقال لواقف في المطر اغتسل، وقال المزنيّ: ولأنّ التّيمّم يشترط فيه إمرار اليد فكذا هنا. وقال المالكيّة: هو واجب لنفسه لا لإيصال الماء للبشرة، فيعيد تاركه أبداً، ولو تحقّق وصول الماء للبشرة لطول مكثه مثلاً في الماء، قال الدّسوقيّ: هذا هو المشهور في المذهب، وقال بعضهم: إنّه واجب لإيصال الماء للبشرة، واختاره عليّ الأجهوريّ لقوّة مدركه، ونصّوا على أنّه لا يشترط مقارنة الدّلك للماء، بل يجزئ ولو بعد صبّ الماء وانفصاله ما لم يجفّ الجسد، فلا يجزئ الدّلك في هذه الحالة لأنّه صار مسحاً لا غسلاً، وصرّحوا بجواز الدّلك بالخرقة، يمسك طرفها بيده اليمنى والطّرف الآخر باليسرى ويدلّك بوسطها، فإنّه يكفي ذلك ولو مع القدرة على الدّلك باليد، وكذا لو لفّ الخرقة على يده أو أدخل يده في كيس فدلّك به، والمعتمد أنّه متى تعذّر الدّلك باليد سقط عنه، ولا يجب عليه الدّلك بالخرقة ولا الاستنابة.
أ - التّسمية: 29 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ التّسمية سنّة من سنن الغسل، وعدّها المالكيّة من المندوبات، لعموم حديث: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم فهو أقطع». قال النّوويّ: وفيه وجه حكاه القاضي حسين والمتولّي وغيرهما أنّه لا تستحبّ التّسمية للجنب، وهذا ضعيف لأنّ التّسمية ذكر، ولا يكون قرآناً إلاّ بالقصد. وذهب الحنابلة إلى وجوب التّسمية لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه» قياساً لإحدى الطّهارتين على الأخرى. قال ابن قدامة: ظاهر مذهب أحمد أنّ التّسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلّها، وعنه أنّها واجبة فيها كلّها: الغسل والوضوء والتّيمّم. وقال الخلّال: الّذي استقرّت الرّوايات عنه أنّه لا بأس بترك التّسمية. ولفظ التّسمية عند الحنفيّة باسم اللّه العظيم والحمد للّه على دين الإسلام، وقيل: الأفضل بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. وقال النّوويّ: صفة التّسمية بسم اللّه، فإذا زاد الرّحمن الرّحيم جاز، ولا يقصد بها القرآن. وقال الحنابلة: صفتها بسم اللّه، ولا يقوم غيرها مقامها، فلو قال: بسم الرّحمن، أو القدّوس، أو نحوه لم يجزئه، لكن قال البهوتيّ: الظّاهر إجزاؤها بغير العربيّة ولو ممّن يحسنها - كما في التّذكية - إذ لا فرق. ويستحبّ عند الشّافعيّة أن يبتدئ النّيّة مع التّسمية، ومصاحبةً لها عند الحنفيّة والحنابلة. قال البهوتيّ: وقتها عند أوّل الواجبات وجوباً، وأوّل المسنونات استحباباً. ب - غسل الكفّين: 30 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ في الغسل غسل اليدين إلى الرّسغين ثلاثاً ابتداءً قبل إدخالهما في الإناء، لحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: «وضعت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل، فغسل يديه مرّتين أو ثلاثاً». قال الدّسوقيّ: هذا إذا كان الماء غير جار وكان يسيراً وأمكن الإفراغ منه، وإلاّ فلا تتوقّف سنّيّة غسلهما على الأوّليّة. ج - إزالة الأذى: 31 - قال الشّافعيّة والحنابلة: أكمل الغسل إزالة القذر طاهراً كان كالمنيّ، أو نجساً كودي استظهاراً. وذهب الحنفيّة إلى أنّه يسنّ بعد غسل اليدين البدء بإزالة الخبث عن جسده، سواء كان بفرج أو غيره، لحديث ميمونة رضي الله عنها في صفة غسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثمّ أفرغ على شماله فغسل مذاكيره»، قال ابن عابدين: السّنّة نفس البداءة بغسل النّجاسة، وأمّا نفس غسلها فلا بدّ منه ولو قليلةً. وصرّح الحنفيّة بأنّه يسنّ غسل الفرج مع البداءة بغسل اليدين، وذلك بأن يفيض الماء بيده اليمنى عليه فيغسله باليسرى، ثمّ ينقّيه وإن لم يكن به خبث اتّباعاً للحديث. وقال المالكيّة يندب البدء بإزالة الأذى أي النّجاسة في الغسل. د - الوضوء: 32 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يسنّ في الغسل الوضوء كاملاً، لحديث عائشة رضي الله عنها «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثمّ توضّأ وضوءه للصّلاة». وعدّه المالكيّة من المندوبات. واختلف الفقهاء في محلّ غسل الرّجلين، هل يغسلهما في وضوئه أو في آخر غسله ؟ فذهب الحنفيّة، والشّافعيّة في الأصحّ، والحنابلة في الصّحيح من المذهب إلى أنّه لا يؤخّر غسل قدميه إلى آخر الغسل، بل يكمل الوضوء بغسل الرّجلين. قال ابن عابدين: ولو كان واقفاً في محلّ يجتمع فيه ماء الغسل، وهو ظاهر حديث عائشة، وعند الحنفيّة قول إنّه يؤخّر غسل قدميه مطلقاً، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد. قال ابن عابدين: وهو ظاهر إطلاق الأكثر، وإطلاق حديث ميمونة، قال النّوويّ عن قولي الشّافعيّة: وهذان القولان إنّما هما في الأفضل، وإلاّ فكيف فعل حصل الوضوء، وقد ثبت الأمران في الصّحيح من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وعند الحنفيّة قول ثالث، وهو إن كان في مكان يجتمع فيه الماء فيؤخّر غسل قدميه. وإلاّ غسلهما في الوضوء، قال ابن عابدين: صحّحه في المجتبى، وجزم به في الهداية والمبسوط والكافي. وعند الحنابلة رواية عن الإمام أحمد بأنّ غسل رجليه مع الوضوء وتأخير غسلهما حتّى يغتسل سواء في الأفضليّة. وذهب المالكيّة في الرّاجح إلى ندب تأخير غسل الرّجلين بعد فراغ الغسل ؛ لأنّه قد جاء التّصريح بتأخير غسلهما في الأحاديث كحديث ميمونة، ووقع في بعض الأحاديث الإطلاق، والمطلق يحمل على المقيّد. هـ - البدء باليمين: 33 - اتّفق الفقهاء على استحباب البدء باليمين عند غسل الجسد، وهو من مندوبات الغسل عند المالكيّة، لحديث أنّه صلى الله عليه وسلم «كان يعجبه التّيمّن في طهوره» وفي حديث عائشة رضي الله عنها «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفّه، ثمّ بدأ بشقّ رأسه الأيمن ثمّ الأيسر». و - البدء بأعلى البدن: 34 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّه يسنّ عند غسل الجسد البدء بأعلاه. ووافقهم المالكيّة في ذلك، لكنّهم عدّوه من المندوبات. ز - تثليث الغسل: 35 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ تثليث غسل الأعضاء في الغسل سنّة، لحديث ميمونة رضي الله عنها: «ثمّ أفرغ على رأسه ثلاث حفنات»، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «ثمّ يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشّعر، حتّى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات»، وأمّا باقي أعضاء الجسد فقياساً على الوضوء. قال الشّربينيّ الخطيب: إن كان الماء جارياً كفى في التّثليث أن يمرّ عليه ثلاثاً جريات، وإن كان راكداً انغمس فيه ثلاثاً، بأن يرفع رأسه منه وينقل قدميه، أو ينتقل فيه من مقامه إلى آخر ثلاثاً، ولا يحتاج إلى انفصال جملته ولا رأسه، فإنّ حركته تحت الماء كجري الماء عليه. وذهب المالكيّة إلى ندب تثليث غسل الرّأس فقط، وأمّا بقيّة الأعضاء فاعتمد الدّردير كراهة غسلها أكثر من مرّة، واعتمد البنانيّ تكرار غسل الأعضاء. 36 - وهناك سنن أخرى منها: أن يكون قدر الماء المغتسل به صاعاً لحديث سفينة رضي الله تعالى عنه: «أنّه صلى الله عليه وسلم كان يغسّله الصّاع من الماء من الجنابة ويوضّئه المدّ». وقدّره أبو حنيفة بالصّاع العراقيّ وهو ثمانية أرطال، وقدّره صاحباه بالصّاع الحجازيّ وهو خمسة أرطال وثلث. قال ابن عابدين: نقل غير واحد إجماع المسلمين على أنّ ما يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدّر بمقدار، وما في ظاهر الرّواية من أنّ أدنى ما يكفي في الغسل صاع وفي الوضوء مدّ لحديث: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصّاع إلى خمسة أمداد، ويتوضّأ بالمدّ» ليس بتقدير لازم، بل هو بيان أدنى القدر المسنون، حتّى إنّ من أسبغ بدون ذلك أجزأه، وإن لم يكفه زاد عليه، لأنّ طباع النّاس وأحوالهم مختلفة. وقال الدّردير: المدار على الإحكام، وهو يختلف باختلاف الأجسام. وبعد أن قرّر الشّافعيّة أنّه يسنّ أن لا ينقص ماء الغسل عن صاع، قالوا: ولا حدّ له فلو نقص عن ذلك وأسبغ كفى. 37 - ونصّ الحنفيّة على أنّ سنن الغسل كسنن الوضوء سوى التّرتيب والدّعاء، وآدابه كآداب الوضوء. ونصّوا على أنّه يسنّ أن يبتدئ في حال صبّ الماء برأسه، ثمّ على ميامنه، ثمّ على مياسره كما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويسنّ السّواك أيضاً في الغسل. ويستحبّ أن لا يتكلّم بكلام مطلقاً، أمّا كلام النّاس فلكراهته حال الكشف، وأمّا الدّعاء فلأنّه في مصبّ المستعمل ومحلّ الأقذار والأوحال. وصرّحوا بأنّ من آداب الغسل: أن يغتسل بمكان لا يراه فيه أحد لا يحلّ له النّظر لعورته ؛ لاحتمال ظهورها في حال الغسل أو لبس الثّياب، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه عزّ وجلّ حييّ ستّير يحبّ الحياء والسّتر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر». ويستحبّ أيضاً أن يصلّي ركعتين سبحةً بعد الغسل كالوضوء لأنّه يشمله. 38 - ونصّ المالكيّة على أنّه يسنّ مسح صماخ (ثقب) الأذنين في الغسل، وذلك بأن يحمل الماء في يديه وإمالة رأسه حتّى يصيب الماء باطن أذنيه ولا يصبّ الماء في أذنيه صبّاً ؛ لأنّه يورث الضّرر، قال الدّسوقيّ: السّنّة هنا مسح الثّقب الّذي هو الصّماخ، وأمّا ما زاد على ذلك فيجب غسله. 39 - وقال الشّافعيّة: من السّنن استصحاب النّيّة إلى آخر الغسل، وأن لا يغتسل في الماء الرّاكد ولو كثر، وأن يكون اغتساله من الجنابة بعد بول لئلاّ يخرج بعده منيّ. ويسنّ أن يقول بعد فراغه: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأن يستقبل القبلة ويترك الاستعانة والتّنشيف. ونصّ الحنابلة على أنّه يستحبّ أن يخلّل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه.
40 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من مكروهات الغسل الإسراف في الماء. ومن المكروهات ضرب الوجه بالماء، والتّكلّم بكلام النّاس، والاستعانة بالغير من غير عذر، ورجّح الطّحطاويّ أنّه لا بأس بالاستعانة، وتنكيس الفعل، وتكرار الغسل بعد الإسباغ، والغسل في الخلاء وفي مواضع الأقذار، وترك الوضوء أو المضمضة أو الاستنشاق والاغتسال داخل ماء كثير كالبحر خشية أن يغلب عليه الموج فيغرقه.
41 - للغسل صفتان: صفة إجزاء وصفة كمال. فصفة الإجزاء تحصل بالنّيّة عند من يشترطها، وتعميم جميع الشّعر والبشرة بالماء. وصفة الكمال تحصل بذلك وبمراعاة واجبات الغسل وسننه وآدابه الّتي سبق بيانها.
|